ضعيف
مقبول
جيد
جيد جداً
ممتاز
Mar 4 2010
إنها مفاعلات نووية أيها الناس.. يا كُلّ الناس
أزعم أن لي حقاً خاصاً في القلق مما أسماه البعض "حلم مصر النووي"، والذي أخشى أن يكون كابوساً أبشع في احتمالاته المتشائمة من كابوس كارثة تشرنوبل التي شاء لي القدر، ليس فقط أن أعايشها، بل أدخل في قلبها، وأكتب عنها كتابي "لحظات غرق جزيرة الحوت فصول تشرنوبل الأربعة".
وقد كانت معايشتي لها استثنائية، ليس لمجرد أنني كنت أحيا في "كييف" حينها (وهي أقرب مدينة من المفاعل المنكوب)، بل لأنني كنت طبيباً دارساً في معهد متقدّم شارك علماؤه في تلبية طوارئ الكارثة وإجراء الدراسات عليها، وأتيح لي أن أعرف كثيراً من العواقب الصحية لما حدث، وأن أرى نتائج تشريح جثة أحد رجال الإطفاء الأبطال الذين فقدوا حياتهم بالتسمم الإشعاعي في أول مواجهة مع النار السوداء فوق السقف المنهار للجناح الرابع من مفاعل تشرنوبل الكهرونووي.
وقد كشف التشريح عن فظاعة هذا الموت الصامت واللامرئي، فما مِن سنتيمتر واحد من جسد الضحية إلا وكان متفجر الأوعية الدموية وغارقاً في النزيف جرّاء عاصفة الطاقة التي اجتاح بها الإشعاع المتسرب الجسد البشري وأعماقه. ثم إنني استطعت التسلل إلى مدينة "بريبيات" التي كان يسكنها خمسون ألفاً من أُسر العاملين في مفاعل تشرنوبل بعد إخلائها، ورأيت كيف تتحوّل مدينة معمورة بالحياة والأحياء، إلى مدينة أشباح تصفر فيها الريح وتتوحش النباتات والحيوانات المهجورة.
رصدت في الأيام الأولى عقب الكارثة القطارات والطائرات والباصات التي راحت تحمل مئات آلاف الأطفال من عمر الرضاعة حتى سن السادسة بعيداً عن أمهاتهم في المنطقة التي لفحها الإشعاع، وطفت بالشوارع والأبنية والأشجار التي كانت تُغسل يومياً بمادة رغوية تزيل عنها الغبار النووي الخفي الآتي من فوهة المفاعل المحترق الفاغرة. وتابعت جهود دولة جبارة تحاول احتواء أول رعب نووي مُعلن عنه تعيشه البشرية بلا حرب، وهي جهود نحن أبعد ما نكون عن إمكاناتها التقنية والبشرية والعلمية والمادية مهما تجاسرَت وتكاذبَت مافيا التكنولوجيا النووية العالمية ومشايعوها المحليون.
وأذكر للرئيس مبارك حينها أنه كان أول رئيس دولة يُرسل بأمر خاص من الرئاسة أستاذاً مصرياً في الطب النووي، مزوداً بأجهزة قياس إشعاع محمولة متطوّرة، للاطمئنان علينا جميعاً، وتقديم العون عبر السفارة المصرية لمن يحتاجه منا دون تفرقة بين مبعوث حكومي ودارس غير حكومي. وقد تردد أن هذه الكارثة كانت سبب إيقاف انطلاقة برنامج مصر النووي، الذي أتمنى ألا ينطلق الآن، وبالكيفيات التي تلوح ملامحها غير مطمئنة أبداً!
مما رشح من الأخبار يتضح أن حلم مصر النووي ما هو إلا شراء مفاعل بنظام تسليم المفتاح، كما لو كان مبنى تجارياً أو سكنياً، وقد عبّر أحد المعنيين بأمر الطاقة النووية لدينا عن ترحيبه بـ"الاستعمار النووي" حتى نكتسب الخبرة! ويبدو أن هذا الاستعمار لن يكون إلّا من دول لا نجهل عمق علاقاتها بإسرائيل التي لن تهنأ أبداً بامتلاكنا لأي قدرة مهما كانت سلمية وتنموية، ولن تكف عن دس سمومها وألغامها في أي كعكة نشتريها أو رمل نبني عليه أحلامنا المستوردة. وأخطر من ذلك كله، هو السؤال عن الكوادر المصرية التي ستشارك في إدارة الحلم "تسليم المفتاح"، خاصة كوادر الحفاظ على الأمان النووي التي فاجأنا بشأنها خبر غريب منذ أيام.
في تفاصيل الخبر المنسوب لمصادر بمركز الأمان النووي التابع لوزارة الكهرباء، ورد "أن حالة من القلق انتابت نحو 500 باحث جراء أنباء ترددت عن عدم إشراك المركز في تنفيذ البرنامج النووي المصري، بعد أن نصّ مشروع القانون الذي يُناقَش داخل مجلس الشعب هذه الأيام على إنشاء هيئة مستقلة للأمان النووي. وأن ما زاد من حالة احتقان العلماء العاملين في المركز تواتر الحديث عن أن راتب العالم في الهيئة المزمع إنشاؤها لن يقل عن 20 ألف جنيه شهريا، فيما يعاني 200 باحث حالي من حمَلة الماجستير والدكتوراه الكفاف؛ لأن راتب الباحث منهم لا يزيد على 200 جنيه شهرياً، لعدم وجود درجات مالية للتعيين!
ماذا يعني ذلك؟ هل سنخترع كوادر نووية جديدة في غضون شهور أو سنوات قليلة؟ أم إن المسألة كلها موكولة للأجنبي إلى أن نستخرج من مناجم أقسام الطبيعة النووية التي طال إهمالها جيلاً جديداً يتسلم المفتاح من ماسك المفتاح؟ وأي حلم مصري هذا؟ أي حلم وطني لا يسبقه إعداد جاد وعميق لكوادر وطنية تعمل بحق على توطين تكنولوجيا بهذه الخطورة في بلد إمكاناته محدودة إذا ما قيست بإمكانات دولة كانت عظمى حين وقعت كارثة تشرنوبل، وهي كارثة لم يتم استيعاب آثارها حتى الآن، برغم العمل المذهل الذي دفن المفاعل الملتهب في تابوت هائل من الخرسانة على قاعدة مُبرَّدة إلى مادون درجة القطب المتجمد بواسطة الآزوت المُسَيَّل.
ومع ذلك لم يصلوا إلى مطلق الأمان النووي؛ لأن جِنِّي الذرة المحبوس داخل التابوت لم يمت بعد. ثم إن هناك مساحات شاسعة في ثلاث دول ضمنها أوكرانيا هي في حكم الأرض الميتة إلى الأبد بأثر التلوث الإشعاعي الذي سيستمر من 300 إلى 500 سنة هي عمر تحلل بعض العناصر المشعة المتسربة من المفاعل المحترق، لا المنفجر كما هو شائع؛ لأن انفجاره كان يعني إفناء نصف أوروبا!
المفاعلات النووية ليست لعبة دعاية انتخابية، ولا غَزَل مُرائي لغوغائية الجماهير، ولا إثبات وجود في مضمار سباق نووي في المنطقة، ولا سبوبة صفقة مع هذه الدولة أو تلك، ولا مقايضة تحت طاولات السياسة العشوائية. كما أنها ليست صراع ضباع على أرض الضبعة التي يجب أن تظل مكرسة للفائدة الوطنية حتى تنضج ظروفنا ونحسم أمرنا بجدية في مشروع نووي أو غير نووي.
ولماذا الطاقة النووية بينما أمامنا بحار من الطاقات البديلة النظيفة والآمنة، وإن كانت أقل رنينا دعائيا، ويكفي أن أوروبا تعمل الآن جادة على استثمار 400 مليار يورو في مشروع "ديزرتك" للحصول على الكهرباء من الطاقة الشمسية من حقول شمال إفريقيا التي أخصبها عطاء هي صحراؤنا المصرية؟
لن أجييب عن مثل هذه الأسئلة، لكنني سأعود إلى شيء من ملف تشرنوبل لعله يجيب، فهناك عالم روسي فذ اسمه "فاليري ليجاسوف"، قاد "جيوش" الإنقاذ في تشرنوبل وكان من أوائل الذين اقتربوا في ناقلة مدرعة مبطنة بالرصاص من المفاعل المنكوب لكي يفهم ما حدث ويضع خطة عاجلة لاحتواء الكارثة.
وقد أبلى بلاءً حسناً شهد له العالم قبل بلاده، لكنه في نهاية شهر أبريل 1988، أي بعد سنتين من وقوع الكارثة، أصابه اكتئاب عميق دفعه إلى الانتحار، لانهيار يقينه فيما كرّس له نفسه طوال عمره، وقال تعليقاً على الكارثة قبل موته: "لقد كنا نفتش عن أساليب لخداع الطبيعة، فماذا لو أننا وجهنا المليارات للبحث عن مصادر للطاقة نقية بيئيا؟ كان علينا أن نفكر باحتمال وقوع الكارثة قبل الشروع بإنشاء مثل هذه المشاريع". كما أشار ليجاسوف إلى الخلل الأخلاقي الذي جعل جيلا ليس من أكفأ المختصين علميا ولا أمتنهم أخلاقياً يعمل في هذا الموقع شديد الحساسية والخطورة لمجرد توصيات من هنا ومحسوبيات من هناك.
فهل نحن في واقع علمي وأخلاقي يجعلنا مطمئنين للدخول في هكذا مُخاطرة؟ من حقي أن أسأل كشاهد عيان على كارثة نووية، ومن حقي أن أجازف بسؤال يزعم البعض أنه في دائرة الأمن القومي وأمور السيادة، فأنا أب لأولاد مثل ملايين الآباء الذي يريدون الاطمئنان على مستقبل ينبغي أن تتسلمه الأجيال القادمة بلا مخاطر يصعب احتواؤها، فيكفي ما سنتركه لهم من مآزق صنعتها أيادي حفنة من النافذين قليلي الكفاءة ومتصحري الضمير.
ثم، لماذا يقتصر النقاش لقانون الأمان النووي على برلمان نعرف عنه ما نعرف، بينما لم يكُف منظّرو لجنة السياسات عن تصديع رءوسنا بتعبير "الحوار المجتمعي"، فإذا لم يكن الأمان النووي لبلدنا جديرا بحوار مجتمعي واسع وعميق ومتخصص وناقد، فما هو الجدير بذلك؟ مباريات كرة القدم، ولعبة شد الحبل؟!
إنها مفاعلات نووية أيها الناس.. يا كُلّ الناس.
مقبول
جيد
جيد جداً
ممتاز
Mar 4 2010
إنها مفاعلات نووية أيها الناس.. يا كُلّ الناس
أزعم أن لي حقاً خاصاً في القلق مما أسماه البعض "حلم مصر النووي"، والذي أخشى أن يكون كابوساً أبشع في احتمالاته المتشائمة من كابوس كارثة تشرنوبل التي شاء لي القدر، ليس فقط أن أعايشها، بل أدخل في قلبها، وأكتب عنها كتابي "لحظات غرق جزيرة الحوت فصول تشرنوبل الأربعة".
وقد كانت معايشتي لها استثنائية، ليس لمجرد أنني كنت أحيا في "كييف" حينها (وهي أقرب مدينة من المفاعل المنكوب)، بل لأنني كنت طبيباً دارساً في معهد متقدّم شارك علماؤه في تلبية طوارئ الكارثة وإجراء الدراسات عليها، وأتيح لي أن أعرف كثيراً من العواقب الصحية لما حدث، وأن أرى نتائج تشريح جثة أحد رجال الإطفاء الأبطال الذين فقدوا حياتهم بالتسمم الإشعاعي في أول مواجهة مع النار السوداء فوق السقف المنهار للجناح الرابع من مفاعل تشرنوبل الكهرونووي.
وقد كشف التشريح عن فظاعة هذا الموت الصامت واللامرئي، فما مِن سنتيمتر واحد من جسد الضحية إلا وكان متفجر الأوعية الدموية وغارقاً في النزيف جرّاء عاصفة الطاقة التي اجتاح بها الإشعاع المتسرب الجسد البشري وأعماقه. ثم إنني استطعت التسلل إلى مدينة "بريبيات" التي كان يسكنها خمسون ألفاً من أُسر العاملين في مفاعل تشرنوبل بعد إخلائها، ورأيت كيف تتحوّل مدينة معمورة بالحياة والأحياء، إلى مدينة أشباح تصفر فيها الريح وتتوحش النباتات والحيوانات المهجورة.
رصدت في الأيام الأولى عقب الكارثة القطارات والطائرات والباصات التي راحت تحمل مئات آلاف الأطفال من عمر الرضاعة حتى سن السادسة بعيداً عن أمهاتهم في المنطقة التي لفحها الإشعاع، وطفت بالشوارع والأبنية والأشجار التي كانت تُغسل يومياً بمادة رغوية تزيل عنها الغبار النووي الخفي الآتي من فوهة المفاعل المحترق الفاغرة. وتابعت جهود دولة جبارة تحاول احتواء أول رعب نووي مُعلن عنه تعيشه البشرية بلا حرب، وهي جهود نحن أبعد ما نكون عن إمكاناتها التقنية والبشرية والعلمية والمادية مهما تجاسرَت وتكاذبَت مافيا التكنولوجيا النووية العالمية ومشايعوها المحليون.
وأذكر للرئيس مبارك حينها أنه كان أول رئيس دولة يُرسل بأمر خاص من الرئاسة أستاذاً مصرياً في الطب النووي، مزوداً بأجهزة قياس إشعاع محمولة متطوّرة، للاطمئنان علينا جميعاً، وتقديم العون عبر السفارة المصرية لمن يحتاجه منا دون تفرقة بين مبعوث حكومي ودارس غير حكومي. وقد تردد أن هذه الكارثة كانت سبب إيقاف انطلاقة برنامج مصر النووي، الذي أتمنى ألا ينطلق الآن، وبالكيفيات التي تلوح ملامحها غير مطمئنة أبداً!
مما رشح من الأخبار يتضح أن حلم مصر النووي ما هو إلا شراء مفاعل بنظام تسليم المفتاح، كما لو كان مبنى تجارياً أو سكنياً، وقد عبّر أحد المعنيين بأمر الطاقة النووية لدينا عن ترحيبه بـ"الاستعمار النووي" حتى نكتسب الخبرة! ويبدو أن هذا الاستعمار لن يكون إلّا من دول لا نجهل عمق علاقاتها بإسرائيل التي لن تهنأ أبداً بامتلاكنا لأي قدرة مهما كانت سلمية وتنموية، ولن تكف عن دس سمومها وألغامها في أي كعكة نشتريها أو رمل نبني عليه أحلامنا المستوردة. وأخطر من ذلك كله، هو السؤال عن الكوادر المصرية التي ستشارك في إدارة الحلم "تسليم المفتاح"، خاصة كوادر الحفاظ على الأمان النووي التي فاجأنا بشأنها خبر غريب منذ أيام.
في تفاصيل الخبر المنسوب لمصادر بمركز الأمان النووي التابع لوزارة الكهرباء، ورد "أن حالة من القلق انتابت نحو 500 باحث جراء أنباء ترددت عن عدم إشراك المركز في تنفيذ البرنامج النووي المصري، بعد أن نصّ مشروع القانون الذي يُناقَش داخل مجلس الشعب هذه الأيام على إنشاء هيئة مستقلة للأمان النووي. وأن ما زاد من حالة احتقان العلماء العاملين في المركز تواتر الحديث عن أن راتب العالم في الهيئة المزمع إنشاؤها لن يقل عن 20 ألف جنيه شهريا، فيما يعاني 200 باحث حالي من حمَلة الماجستير والدكتوراه الكفاف؛ لأن راتب الباحث منهم لا يزيد على 200 جنيه شهرياً، لعدم وجود درجات مالية للتعيين!
ماذا يعني ذلك؟ هل سنخترع كوادر نووية جديدة في غضون شهور أو سنوات قليلة؟ أم إن المسألة كلها موكولة للأجنبي إلى أن نستخرج من مناجم أقسام الطبيعة النووية التي طال إهمالها جيلاً جديداً يتسلم المفتاح من ماسك المفتاح؟ وأي حلم مصري هذا؟ أي حلم وطني لا يسبقه إعداد جاد وعميق لكوادر وطنية تعمل بحق على توطين تكنولوجيا بهذه الخطورة في بلد إمكاناته محدودة إذا ما قيست بإمكانات دولة كانت عظمى حين وقعت كارثة تشرنوبل، وهي كارثة لم يتم استيعاب آثارها حتى الآن، برغم العمل المذهل الذي دفن المفاعل الملتهب في تابوت هائل من الخرسانة على قاعدة مُبرَّدة إلى مادون درجة القطب المتجمد بواسطة الآزوت المُسَيَّل.
ومع ذلك لم يصلوا إلى مطلق الأمان النووي؛ لأن جِنِّي الذرة المحبوس داخل التابوت لم يمت بعد. ثم إن هناك مساحات شاسعة في ثلاث دول ضمنها أوكرانيا هي في حكم الأرض الميتة إلى الأبد بأثر التلوث الإشعاعي الذي سيستمر من 300 إلى 500 سنة هي عمر تحلل بعض العناصر المشعة المتسربة من المفاعل المحترق، لا المنفجر كما هو شائع؛ لأن انفجاره كان يعني إفناء نصف أوروبا!
المفاعلات النووية ليست لعبة دعاية انتخابية، ولا غَزَل مُرائي لغوغائية الجماهير، ولا إثبات وجود في مضمار سباق نووي في المنطقة، ولا سبوبة صفقة مع هذه الدولة أو تلك، ولا مقايضة تحت طاولات السياسة العشوائية. كما أنها ليست صراع ضباع على أرض الضبعة التي يجب أن تظل مكرسة للفائدة الوطنية حتى تنضج ظروفنا ونحسم أمرنا بجدية في مشروع نووي أو غير نووي.
ولماذا الطاقة النووية بينما أمامنا بحار من الطاقات البديلة النظيفة والآمنة، وإن كانت أقل رنينا دعائيا، ويكفي أن أوروبا تعمل الآن جادة على استثمار 400 مليار يورو في مشروع "ديزرتك" للحصول على الكهرباء من الطاقة الشمسية من حقول شمال إفريقيا التي أخصبها عطاء هي صحراؤنا المصرية؟
لن أجييب عن مثل هذه الأسئلة، لكنني سأعود إلى شيء من ملف تشرنوبل لعله يجيب، فهناك عالم روسي فذ اسمه "فاليري ليجاسوف"، قاد "جيوش" الإنقاذ في تشرنوبل وكان من أوائل الذين اقتربوا في ناقلة مدرعة مبطنة بالرصاص من المفاعل المنكوب لكي يفهم ما حدث ويضع خطة عاجلة لاحتواء الكارثة.
وقد أبلى بلاءً حسناً شهد له العالم قبل بلاده، لكنه في نهاية شهر أبريل 1988، أي بعد سنتين من وقوع الكارثة، أصابه اكتئاب عميق دفعه إلى الانتحار، لانهيار يقينه فيما كرّس له نفسه طوال عمره، وقال تعليقاً على الكارثة قبل موته: "لقد كنا نفتش عن أساليب لخداع الطبيعة، فماذا لو أننا وجهنا المليارات للبحث عن مصادر للطاقة نقية بيئيا؟ كان علينا أن نفكر باحتمال وقوع الكارثة قبل الشروع بإنشاء مثل هذه المشاريع". كما أشار ليجاسوف إلى الخلل الأخلاقي الذي جعل جيلا ليس من أكفأ المختصين علميا ولا أمتنهم أخلاقياً يعمل في هذا الموقع شديد الحساسية والخطورة لمجرد توصيات من هنا ومحسوبيات من هناك.
فهل نحن في واقع علمي وأخلاقي يجعلنا مطمئنين للدخول في هكذا مُخاطرة؟ من حقي أن أسأل كشاهد عيان على كارثة نووية، ومن حقي أن أجازف بسؤال يزعم البعض أنه في دائرة الأمن القومي وأمور السيادة، فأنا أب لأولاد مثل ملايين الآباء الذي يريدون الاطمئنان على مستقبل ينبغي أن تتسلمه الأجيال القادمة بلا مخاطر يصعب احتواؤها، فيكفي ما سنتركه لهم من مآزق صنعتها أيادي حفنة من النافذين قليلي الكفاءة ومتصحري الضمير.
ثم، لماذا يقتصر النقاش لقانون الأمان النووي على برلمان نعرف عنه ما نعرف، بينما لم يكُف منظّرو لجنة السياسات عن تصديع رءوسنا بتعبير "الحوار المجتمعي"، فإذا لم يكن الأمان النووي لبلدنا جديرا بحوار مجتمعي واسع وعميق ومتخصص وناقد، فما هو الجدير بذلك؟ مباريات كرة القدم، ولعبة شد الحبل؟!
إنها مفاعلات نووية أيها الناس.. يا كُلّ الناس.